٢٧ فبراير ٢٠٢١ كتب كريس ديكسون:

تنبأ المحرر الصحفي كيفن كيلي في مقالته الكلاسيكية بعنوان “1000 معجب حقيقي” عام 2008 بأن الإنترنت سوف يؤدي إلى نقلة نوعية في اقتصاديات الأنشطة الإبداعية:

“فلكي تكون مبدعًا ناجحًا، لا تحتاج إلى الملايين. لن تحتاج لملايين الدولارات أو الملايين من العملاء ومستهلكي منتجاتك أو حتى ملايين المعجبين. ولكن لتكسب قوتك من خلال أعمالك الإبداعية، كصاحب حرفة أو مصور أو موسيقار أو مصمم أو مؤلف أو رسام رسوم متحركة أو مصمم تطبيقات أو رائد أعمال أو مخترع، فكل ما تحتاج إليه هو بضعة آلاف من المعجبين الحقيقيين.”

فمن هو المعجب الحقيقي؟ وإلى أي مدى في الواقع تتسنى درجة إعجابه؟ يتم تعريف المعجب الحقيقي على أنه شخص مستعدٌ لشراء أي منتج تنتجه. فهذا النوع من المعجبين المتعصبين سيقطع مئات الكيلومترات ليراكَ وأنت تغني، وسيشتري جميع النسخ الورقية المطبوعة بغلاف سميك أو رقيق وكل الإصدارات الصوتية من كتابك، بل سيشتري تمثالك الصغير دون رؤيته، وسيدفع مقابل ” أفضل نسخة” دي في دي (DVD) لقناتك المجانية باليوتيوب، فهو المعجب الذي سيدخر ماله ويكرس وقته ليتمكن من حضور عرضك الأول حصريًا أو التفاعل معك مباشرةً بين الحين والآخر.
ومن هنا كانت رؤية كيلي بأن الإنترنت وما عليه من تطورات قد بات الأداة المطلقة لتوصيل الناس ببعضهم، متخطيًا بذلك الوسطاء التقليديين، الأمر الذي مكّن المبدعين من تبني مفهوم الرعاية المالية في القرن الحادي والعشرين. وأضحى المبدعون، مهما بدت مكانتهم، قادرين على اكتشاف معجبيهم الحقيقيين والإلمام بهم، والذين بدورهم يُعربون عن قدر الحماس لديهم تجاه أعمال المبدعين من خلال الدعم المالي المباشر.
ولكن الإنترنت أخذ منعطفًا آخر. لقد سادت هيمنة منصات التواصل الاجتماعي المركزية واستحوذت على التواصل بين المبدعين والمعجبين. ثم استخدمتْ المنصات هذه القوة المحركة في أن تتقلد دور الوسطاء الجدد — مدمجةً بذلك الإعلانات والتوصيات المستندة على النظم الخوارزمية التي تقف حائلًا بين المبدعين والمستخدمين، ولكن يعود النفع الأكبر على هذه المنصات، حيث يحتفظون بمعظم الإيرادات الناتجة لأنفسهم.
الخبر السار هو أن مسار الإنترنت يشهد إعادة توجه نحو تصورات كيلي. وكمثالًا على ذلك، يكسب العديد من أفضل الكُتَّاب على منصة المحتوى الإخباري صاب-ستاك (Substack) أكثر بكثير مما اعتادوا أن يتقاضونه في الوظائف مدفوعة الأجر. ستقف مذهولًا أمام ما تخلقه اقتصاديات معدلات العمولة المنخفضة التي تفرضها مثل هذه المنصات وما يكسبه أشد المعجبين من أرباح. فوجود 1,000 مشترك على منصة صاب-ستاك لتلقي النشرات الإخبارية مع دفع كلٌ منهم اشتراك شهري بقيمة 10 دولار يعني أن الدخل الصافي للكاتب يزيد عن 100 ألف دولار سنويًا.
وهنا يأتي دور العملات المشفرة وخصيصًا عملات NFT (أي الرموز الغير قابلة للاستبدال)، حيث يمكن لها تسريع توجه قيام المبدعين بتحقيق التحول الربحي مباشرةً من خلال مشجعيهم. وستظل المنصات الاجتماعية الحالية وسيلة مفيدة في استقطاب وخلق الجماهير (على الرغم أنه ربما من الأفضل الاستعاضة عنها ببدائل تفوقها في اللامركزية)، إلا أن بإمكان المبدعين الاعتماد على وسائل أخرى أكثر فأكثر بما في ذلك عملات الـ NFTs والنظم الاقتصادية القائمة على العملات المشفرة لكسب المال.
تُعرف عملات NFTs الغير قابلة للاستبدال على أنها سجلات إلكترونية قائمة على تقنية سلسلة الكتل، والتي تمثل أصول رقمية من مختلف الوسائط بشكل فريد. يمكن أن تتخذ هذه الوسائط العديد من الأشكال الرقمية، بما في ذلك الرسومات ومقاطع الفيديو والموسيقى والصور المتحركة (المعروفة بـGIF) والألعاب والنصوص والميمات والأكواد. وتنطوي هذه الـ NFTs على وثائق جديرة بالثقة وتتسم بالشفافية حول تاريخها وأصالتها، ويمكنها أن تحتوي على أكواد برمجية مرفقة بها ذات قدرة على تنفيذ أي شيء قد يحلم به المبرمجون تقريبًا (ومن أشهر الخاصيات المطبقة هي الأكواد البرمجية التي تضمن
حصول صاحب المحتوى الأصلي على عوائد ملكية من المبيعات الثانوية). وإن هذه الرموز الغير قابلة للاستبدال مؤَمنة بنفس التقنية التي مكّنت مئات الملايين في جميع أنحاء العالم من امتلاك عملة البيتكوين كما أن قيمتها تمثل مئات البلايين من الدولارات.
لقد حظيت رموز NFTs بالكثير من الاهتمام في الآونة الأخيرة بسبب ارتفاع حجم المبيعات. وعلى مدار الثلاثين يوم الماضي وصل حجم مبيعاتها إلى ما يزيد عن 300 مليون دولار:
للعملات المشفرة لها تاريخ حافل بدورات من الازدهار والكساد. ولكن مع ذلك، هناك ثلاثة أسباب مهمة تمكن الرموز الغير قابلة للاستبدال من تقديم أطر اقتصادية أفضل بشكل جذري للمبدعين وصناع المحتوى. السبب الأول هو المشار إليه بالأعلى من إزالة الوسطاء الساعين لتحصيل عمولات. فالمنطق
خلف تقنية سلاسل الكتل هو أنه بمجرد شراءك لـ NFT، فإنه يصبح لك بشكل حصري للتحكم فيه، تمامًا كما هو الحال عند شراءك كتابًا أو حذاءاً رياضيًا في العالم الحقيقي. لا يزال هناك منصات وأسواق لتداول الـ NFT وسيظل الأمر كذلك، لكن هذه المنصات ستكون مقيدة في نسبة العمولة التي يمكن لها أن تخصمها، وذلك لأن الملكية القائمة على سلاسل البلوك-تشين تقوم بنقل القوة إلى أيادي المبدعين والمستخدمين – يمكنك التجول بالسوق وإجباره على تقديم ما يبرر عمولته. (لاحظ أن خفض عمولة الوسيط يمكن أن يكون له تأثير مضاعف على صافي الدخل المتاح لصناع المحتوى. فعلى سبيل المثال، إذا حققت إيرادات صافية بقيمة 100 ألف دولار، ولديك تكاليف بقيمة 80 ألف دولار، فإن قيامك بالتخلص من عمولة وسيط بنسبة 50٪ سوف يؤدي إلى زيادة إيراداتك إلى 200 ألف دولار، مما يعني مضاعفة الدخل المتاح لك 6 أضعاف، من 20 ألف دولار فقط إلى 120 ألف دولار) الطريقة الثانية التي تغير بها رموز الـ NFT أطر صناعة المحتوى الاقتصادية هي تمكين التسعير الدقيق. في نماذج الأعمال الاقتصادية المستندة إلى الإعلانات، الإيرادات يتم تحقيقها بشكل موحد إلى حد بعيد بغض النظر عن مستوى حماس كل من المعجبين. ولكن في حالة منصة صب-ستاك (Substack)، فإن رموز الـNFT تسمح لصناع المحتوى بالتربح أكثر من مستخدمي “وجه القفص” الأكثر شغفًا، وذلك من خلال تقديم عناصر خاصة لهم بتكلفة أعلى. وفوق ذلك، رموز الـ NFT تصل لما هو أبعد من المنتجات غير التشفيرية، حيث أنه يسهل تقطيعها وتقسيمها لمستويات متدانية من الأسعار. فمثلًا، تتراوح بطاقات إن-بي-إيه توب شوت (NBA Top Shot) بين بضعة دولارات وتصل إلى أكثر من 100 ألف دولار. هل أنت من محبي البيتكوين؟ يمكنك شراء الكثير أو القليل منها كما تريد، وصولاً إلى شراء بقيمة عند 8 نقاط عشرية؛ الأمر يعتمد على مستوى رغبتك أنت. مستوى التسعير المتناهي الدقة الذي تتميز به العملات المشفرة يسمح لصناع المحتوى بالاستفادة من قدر أكبر بكثير من مساحة ما تحت منحنى الطلب.
الطريقة الثالثة والأكثر أهمية لقيام الـ NFTs بتغيير أطر صناعة المحتوى الاقتصادية هي تحويل المستخدمين لملاك،مما يقلل من تكاليف اكتساب العملاء لدرجة تقارب الصفر. قم بفتح ملف S-1 لأي شركة تكنولوجيا وستجد أن لديهم تكاليف ضخمة لاكتساب المستخدمين/العملاء، وعادة ما تذهب هذه التكاليف إلى الإعلانات عبر الإنترنت أو موظفي المبيعات. على النقيض من ذلك، فقد نمى سوق العملات المشفرة لأكثر من تريليون دولار من حيث القيمة السوقية الإجمالية، وذلك بدون أي إنفاق تسويقي تقريبًا. بيت-كوين و إيثريوم ليس لدهم مؤسسات وراءهما، ناهيك عن أي ميزانيات تسويقية، ومع ذلك يتم استخدامهم وامتلاكهم من قبل عشرات الملايين من الأشخاص الذين يحبونهم.
مشروع إن-بي-إيه توب-شوت (NBA Top Shot) وهو أكبر مشاريع الـ NFT من حيث الإيرادات حتى الآن، حقق 200 مليون دولار إجمالي المبيعات في الشهر الماضي فقط مع إنفاق تسويقي ضئيل جدًا. لقد تمكنت المنصة من النمو بكفاءة لأن مستخدميها يشعرون وكأنهم مُلالكًا وأنهم يشاركون بأيديهم في اللعبة. هذه هي الطريقة الصحيحة للقيام بالتسويق من نظير لنظير، حيث أن الشعور المجتمعي والإثارة والإحساس بالملكية هم الدافع الحقيقي وراء النمو.
رموز الـ NFT لا زالت في مرحلة مبكر، وسوف تتطور كثيرًا، حيث ستزداد فائدتها مع بناء تجارب رقمية جديدة حولها، بما في ذلك الأسواق الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعية والمعارض الفنية والألعاب والعوالم الافتراضية. ذلك كما أنه من المحتمل أيضًا ظهور منتجات تشفيرية أخرى مواجهة للمستخدم وارتباطها بالـNFT. فمثلًا، ألعاب الفيديو الحديثة كـFortnite تحتوي على نظم اقتصادات متطورة تجمع بين الرموز القابلة للاستبدال مثل عملة في-باكس (V-Bucks) مع رموز الـ NFT أو السلع افتراضية مثل الجلود. يومًا ما، قد يكون لكل مجتمع على الإنترنت اقتصاد صغير خاص به، بما يشمل رموز NFT الغير قابلة للاستبدال ورموز أخرى قابلة للاستبدال يمكن للمستخدمين استعمالها وامتلاكها وجمعها.
فكرة الألف معجب حقيقي مبنية على الأهداف الأصلية التي بني من أجلها الإنترنت، وهي: توصيل المستخدمين وصناع المحتوى سويًا على مستوى العالم دون أي قيود مفروضة عليهم من قبل الوسطاء، وتمكين تبادلهم للأفكار والمكاسب الاقتصادية. حوّلت منصات التواصل الاجتماعي الحالية هذه الرؤية عن مسارها من خلال ربط صناع المحتوى في دائرة من توزيع وتحقيق الأرباح. الخبر الجيد هو أن هناك طريقتان لكي نتحدى هيمنة هذه المنصات: سحب
المستخدمين، أو سحب المال من تحت أرجلهم. العملات المشفرة والرموز الغير قابلة للاستبدال تفتحان لنا طريق جديد لسحب الأموال منهم. لنجعل ذلك الحلم حقيقة.
(الصورة من: CryptoPunks – Larva Labs)